السبت، 9 مارس 2013

مقدمة في البلاغة لطلبة الشريعة

مقدمة مادة البلاغة (1) لطلبة الشريعة

إعداد: الدكتور خالد خميس فراج

البلاغة: نشأتها وبداياتها:
        بلغ العربُ في الجاهلية مرتبةً رفيعةً في البلاغة وروعةِ البيان؛ فقد تمثَّل البيانُ العربيّ قبل مجيء الإسلام في جمالِ القصيدِ والأمثالِ والحكم، وكان نزولُ القرآن الكريم معجزةَ الرّسولِ- صلّى الله عليه وسلّم- وحُجّتهُ القاطعة، أهمّ حَدَثٍ هزَّ وُجدانَ العَرَب، واستثار ما لديهم من بيان.

انظر في قولِ الوليد بن المغيرة، أحدِ خُصوم النبيّ –عليه الصلاة والسلام- الألداء، بعد أن استمع إلى الرسول- صلّى الله عليه وسلّم-  وهو يتلو بعضَ آيِ القرآن الكريم:"واللهِ إنَّ له لحلاوةً، وإنَّ عليه لطلاوةً، وإنَّ أعلاهُ لمثمرٌ، وإنَّ أسفلَه لمغدقٌ، وإنه ليعلو ولا يُعلى عليه، وما يقولُ هذا بشر".

وتشير الروايات إلى أنَّ الرسولَ- صلى الله عليه وسلم- استمع إلى الشعراء؛ أمثال: زيد بن ثابت، وكعب بن زهير، وكان يستنشدهم الشعر، ويثيبهم عليه، وقد حثَّ شعراء المسلمين على الردّ على شعراء المشركين والدفاع عن الإسلام. وقال:" إنَّ من الشّعرِ لحِكمة، وإنَّ مِن البَيان لسِحْرا" ، وكان الخلفاء الراشدون يحفظون الأشعار، وأُثِرَت عنهم أقوالٌ وآراء في الشعر ونقده، ومن أشهرهم عمر بن الخطاب، فلا يكاد يعرِضُ له أمرٌ إلا أنشد فيه بيتَ شعرٍ.

          وذاع حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم- في صدر الإسلام الذي قال فيه الجاحظ: "لم ينطق إلا عن ميراث حكمة، ولم يتكلم إلا بكلام قد حُفّ بالعصمة.... وهو الكلام الذي ألقى الله عليه المحبة، وغشّاه  بالقُبول، وجمع له بين المهابة والحلاوة، وبين حُسن الإفهام وقلة عدد الكلام، مع استغنائه عن إعادته، وقلّة حاجة السامع إلى مُعاودته... ثمّ لم يسمع الناسُ بكلامٍ قطْ أعمّ نفعاً، ولا أقصد لفظاً، ولا أعدل وزناً، ولا أجمل مذهباً، ولا أكرم مطلباً، ولا أحسن موقعاً، ولا أسهل مخرجاً، ولا أفصحَ معنى في فَحوى مِن كلامه- صلى الله عليه وسلم".

        وقد كثرت الملاحظاتُ البيانية في العصر الأموي لأسباب كثيرة منها: تحَضّر العرب واستقرارهم، ورُقي حياتهم العقلية، وشيوعِ الجَدلِ بينهم في السّياسة والعقائد والأفكار، ولم تقتصر الملاحظاتُ البيانية على الخطابة والخطباء، وإنما تعدتها إلى الشّعر والشعراء الذين لقوا التشجيع فتنافسوا في التجويد. وساعدت الأسواقُ الشعرية، ولا سيما سوقُ المربد على الاهتمام بالملاحظاتِ البيانية، وشجّعت ما يشبه المناظرات.

          ولقد اتّسعت في العصر العباسي الأول الملاحظاتُ البلاغية؛ بسبب ما جدّ من تطورٍ في النثر والشعر انسجاماً مع تطور الحياة العقلية والحضارة، وظهور المعلمين، يهتم بعضهم باللغة والشعر، ويُعنى بعضُهم الآخر بالخطابة والمناظرة. ومن مظاهر هذا العصر مشاركة غيرِ العرب في الحياة الثقافية، وقيامهم بدور ممتاز في الترجمة عن اللغات الأخرى إلى العربية. ومن هؤلاء عبد الحميد الكاتب، وعبد الله بن المقفع.

ثم بدأ العلماء والمعلمون بعد استقرار الخلافة العباسية واتساعها في جمع الأبيات المؤثرة، ووضع الملاحظات التعليمية؛ فألّفت مجموعة من المؤلفات والتصانيف التي جمعت كثيرا من الملاحظات النقدية واللغوية، وأظهرت عددا من العلماء والمهتمين بالبلاغة والنقد الأدبي حتى جاء عبدُ القاهر الجرجاني، فكان أوّلَ من وضعَ كتاباً جامعاً في البلاغة، فكتب (دلائل الإعجاز)، و(أسرار البلاغة)، ومن بعده تطور هذا العلم.

تطور البلاغة ومؤلفاتها الأولى:
يعد أبو عبيدة معمر بن المثنى البصري، توفي عام 206هـ، أول من وضع كتابا في علم البيان وسماه (مجاز القرآن)، أما الجاحظ، توفي عام 255هـ، فقد نثر في كتابه (البيان والتبيين)، الملاحظات البلاغية، وقدم تحليلات لبعض الصور البيانية في القرآن الكريم.

ثمَّ ظهرت دراساتٌ أخرى أكثرُ تطوراً تمثلت في ما كتبه أبو العباس المبرد، توفي عام 285هـ، في كتابه (البلاغة)، وما كتبه الخليفة العباسي عبد الله بن المعتز- توفي عام 296هـ - في كتابه (البديع). ثمَّ توالت كُتب أخرى منها: (نقد الشعرلقدامة بن جعفر -توفي عام 337هـ-، و(كتاب الصناعتين) لأبي هلال العسكري -توفي عام 395هـ-، و(أسرار البلاغة)، و(دلائل الإعجاز) لعبد القاهر الجرجاني -توفي عام 471هـ- و(مفتاح العلومللسكاكي-توفي عام 626هـ-، و(المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر) لابن الأثير -توفي عام 622هـ-، و(تلخيص المفتاح)، و(الإيضاحللخطيب القزويني -توفي عام 739هـ-.

تعريف البلاغة والفصاحة:
البلاغة في اللغةمن بلُغ بلاغةً إذا بُولغ في بلوغه للغاية، فبَلَغ بمعنى وَصل، أما في الاصطلاح: "إصابة المعنى والقصد إلى الحجَّة مع الإيجاز"، وهي القدرة على مخاطبة الناس حسب مستوى حالهم ومقامهم. وقد يسمى بعلم البيان؛ تسمية للشيء باسم جزئه,... ويعرفه المعاصرون بأنه: تأدية المعنى الجليل بعبارة صحيحة فصيحة، مع مناسبة الحال والمقال للمخاطَب...

الفصاحة في اللغة: تطلق على معانٍ كثيرة منها: البيان والظهور، وفَصُحَ الرَّجلُ فَصاحة، فهو فَصِيح من قوم فُصَحاء وفِصاحٍ وفُصُحٍ.
 والفصاحة في الاصطلاح: هي الألفاظ البينة الظاهرة المتبادرة إلى الفهم، والمأنوسة الاستعمال...  

          أما الفرق بين البلاغة والفصاحة، فهو أنَّ البلاغة تكون للمعنى، ولا يكون الكلام بليغاً إلا إذا كانت ألفاظه فصيحة في الوقت نفسه، وقد يكون الكلام فصيحاً، وهو غير بليغ، إذا لم تتناسب الكلمات الفصيحة مع المقام والموضوع الذي قيلت فيه.ومخالفة القياس، وتنحصر فصاحة الكلمة في السّلامة من هذه الثلاثة؛ لأنه المُخلُّ بفصاحتها، إما التنافر في الكلمة: فيكون بتنافر الحروف، وهو وصف في الكلمة يُوجِبُ ثِقلها على اللسان، وعُسرَ النُّطقِ بها كـ: هعخع بمعنى نبات ترعاه الإبل، ومنه مستشزرات بمعنى مفتول. يقول امرئ القيس في معلقته يصف صاحبته بأنها غزيرة الشعر؛ لأنَّ خصال شعرها بعضه مرتفع:
غَدَائِرُهُ مُسْتَشْزِرَاتٌ إِلَى الْعُلاَ *** تَضِلُّ الْمَدَارِي فِي مُثَنَّى وَمُرْسَلِ
الغدائر: جمع غديرة، وهي الخصلةُ من الشعر. مُسْتَشْزِرَات: أي: مُنْفَتِلاَتٌ، تَضِلُّ الْمَدَارِي؛ أي: تَضِيعُ، الْمَدَارِي: وهي جمعُ مِدْراة، والْمِدْراةُ ما يُعْمَلُ من حديدٍ أو خَشَبٍ على شْكلِ سِنٍّ مِنْ أسْنَانِ الْمُشْطِ، وأطول منه، يُسَرَّحُ بها الشِّعَرُ الْمُتَلَبِّدُ. والْمُثَنَّى: الْمُنْعَطِفُ بَعْضُهُ عَلى بعض. والْمُرْسَل: المتروكُ على طَبيعَتِه دُون ضَفْرٍ وَلاَ تَثْنِيَةٍ وَلاَ تَجْعِيد.

وأما مخالفة القياس: فيكون لكلمة غير جارية على القانون الصَّرفي؛ أيْ ألا تكون مدرجة فيه، وألا تكون في حكم المستثناة منه، وبيان شذوذها عقب كل قانون؛ نحو: جمع بوق على بوقات في قول المتنبي:
فإنْ يكُ بعضُ الناسِ سيفًا لدولةٍ = ففي الناسِ بُوقاتٌ لها وطبولُ

والقياس أن تجمع على أبواق في جمع القلة، والغرابة أنْ تكون الكلمة غير ظاهرة الدلالة على المعنى الموضوع له؛ لعدم تداولها فيما بين العرب؛ ومثاله: افرنقع بمعنى انصرف، وتكأكأ بمعنى اجتمع.
ومثال عُسْرَ النطْقِ قول الشاعر:
في رَفْعِ عَرْشِ الشرْعِ مثلُك يَشْرَعُ = وليسَ قُرْبَ قَبْرِ حَرْبٍ قَبْرُ

       ضعف التأليف؛ أي ضعف التركيب بأنْ يكون الكلامِ غيرَ جارٍ على القانونِ النَّحويِّ المشهورِ؛ فإن كان الكلام ضعيف التركيب فهو غير فَصيح؛ كعود الضّمير على مُتأخرٍ لفظاً ورتبة مثاله:

جَفَوني, ولم أجفُ الأخِلاءَ, إنَّني*** لِغَيْرِ جَميلٍ مِنْ خَليليَ مُهْمِلُ 

فالضمير في جفوني يعود على الأخلاء، وقد جاء متأخراً على عكس القانون المشهور.

والتعقيد: أنْ يكونَ الكلامُ خَفِيَّ الدّلالةِ على المعنى المرادِ؛ مما يقتضي صعوبة الفَهم، ويكون هذا الخفاءُ لِخَلَلٍ منْ جهةِ اللفظِ بسببِ التقديمِ والتأخيرِ والفَصْلِ مثاله:
وما مِثلُه في النّاسِ إلا مملكاً    = أبو أمه حي أبوه يقاربه
هذا البيت فيه تقديم وتأخير يجعله مُعقدا وتقديرَ الكلام : وما مثله في الناس حيٌّ يقاربه إلا مملكا أبو أمه أبوه.

موضوع علم البلاغة:
       يبحث علمُ البلاغة في الأساليب العربية، وتنوعها، والمقام الذي ينبغي أن يؤتى فيه بالضمير، والمقام الذي ينبغي أن يؤتى فيه بالاسم ظاهر، والمقام الذي يؤتى فيه بالجملة الاسمية، والمقام الذي يؤتى فيه بالجملة الفعلية، وهكذا.
مصدر علم البلاغة: يستمد علم البلاغة من الكتاب والسنة، وآثار الخلفاء الراشدين، والخطباء المشهورين، وأشعار العرب وآدابهم.
فضل علم البلاغة: يهدف للوصول إلى إدراك الإعجاز البياني في كتاب الله تعالى، بالإضافة إلى تقويم لسانك أنت؛ حتى يمكن لك أنْ تؤثر في الآخرين.
 حكم تعلم علم البلاغة: فرض كفاية على الأمة، إذ هو من العلوم النافعة، ولم يتعلمه الصحابة والتابعون لغناهم عنه بسليقتهم اللغوية المجبولة على الفصاحة، وأصل فطرتهم، وإنما أُرسيت قواعد علم البلاغة من كلامهم.

فائدة علم البلاغة:
        إدراك تفاوت الأساليب، وقدرة الإنسان على أداء المعاني المختلفة من ألفاظ متفاوتة، فيعرف المكان الذي ينبغي فيه التصريح، والموضع الذي تجب فيه الكناية، والمقام الذي يلزم فيه التشبيه،... وغيرها من أبواب هذا العلم، وأيضا ما ينجم عنه من تحسين الذوق، فالإنسان محتاج إلى تأديب لسانه، وتهذيب جنانه، فتأديب لسانه هو بتحسين ذوقه في اللغة؛ حتى يعرف الكلمات التي ينبغي أن يتحاشاها، والأساليب التي يحسن له أن يقولها، ويعرف أيضا مستوى مَن يخاطبه.

مراحل تكوين التراكيب العربية ونسبة البلاغة إلى العلوم الأخرى في التأثير فيها:
المرحلة الأولى:علم الأصوات: هو العلم الذي يخرج لنا ما لا يدخل في اللغة العربية من أصوات، وتنحصر في ثمانية وعشرين صوتًا، كلُّ صوت له رمزٌ يخصّه، ويكونُ التعاملُ مع هذه الأصوات وهي مركبة؛ لتشكلَّ وحداتٍ لُغويةً مُنفصلة، وكلُّ مجموعة منها تلتحم؛ لتُمثِّلَ بِناءً لُغوياً مُفرداً، وهو ما نُسمّيهِ الكَلمة.

المرحلة الثانية : علم اللغة والمعجم؛ وهو العلمُ الذي يرشدُك إلى هذه الكلمةِ، أهيَ مُستعملة عند العرب فذكرت في معاجم اللغة أم لا؟ فالعربية فيها خمسُ أبنية هي: ثنائي، وثلاثي، ورباعي، وخُماسي وسداسي.

المرحلة الثالثة: علم الصرف: هو عِلم يهتمُّ بجانبِ بناءِ الكلمة، وهو ما يسمّونه بالميزان الصّرفي.

المرحلة الرابعة :علم النحوهو علمُ صياغة الجملة وبنائها، وهو علمٌ يهتمّ بحركةِ الكلمات في الجملة وتركيبها بطريقةٍ مُعينة، سواء أكانت جملة فعليةً أم اسمية، أم مركبةً منهما، أم شبه جملة.


المرحلة الخامسة:
  علم البلاغة: وفيها مرحلة التفاضل في الكلام والجودة، فيجتمع كلامان صحيحان، أحدهما أحسن من الآخر. فما المعيار للحكم بالأفضلية أو بالأحسنية على أحدهما؟ هذا ما يبحثه علم البلاغة بفروعه: المعاني والبيان والبديع، فإذا كانت القضيةُ تتصل بتركيب الكلام فهذا يدخل في علم المعاني، أمّا إنْ كان الموضوع يتصل بطريقة تأدية المعنى فهذا من اختصاص علم البيان، وإذا كان الأمرُ يبحث في تحسين الكلام: اللفظي أو المعنوي فهذا هو ما يختص به علم البديع.

والوسيلة المثلى التي يمكن للإنسان أن يكتسب فيها صفة الفصاحة والبلاغة: هي الدّرْبَة وتعويد النفس، والثروة اللغوية، ومن أهم ما يُكِسبُ طالبَ العلم هذه الثروة حِفظ ما يلي:

  1.     النّصوص الشرعية من كلام الله تعالى في كتابه العزيز، وممّا صحَّ مِن حديث رسول الله -صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّمَ، ومعرفة معاني ألفاظهما.
  2.       جواهر الشعر العربي لكبار الشعراء القدماء والمحدثين...
  3.       دُرَر النَّثر، من الخطب والحكم والأمثال والقصص والخواطر... قديمها ومعاصرها
  4.        القوالب اللفظية المعبرة بقدرة فائقة.

عبد القاهر الجرجاني ونظريةَ النّظم:
هو أبو بكر عبدالقاهر بن عبدالرحمن فارسيّ الأصل، جرجانيُّ الدار، مُتكلّمٌ على مذهب الأشعري، فقيهٌ على مذهب الشافعي، وُلِد بجرجان ولم يخرج منها حتى لطلب العلم، ولما طافَتْ شهرته الآفاقَ شُدَّت إليه الرِّحالُ وحُثَّت المَطِيّ، وظلَّ مُتصدِّرًا جُرجان يُفِيد الرّاحِلين إليه، والوافدين عليها، إلى أنْ تُوُفّي بجرجان، ودُفِن بها سنة 471هـ - رحمه الله.
مؤلفاته:
1.                    المغنيوهو شرح مبسوط للإيضاح يقع في ثلاثين مجلدًا.
2.                    المقتصداقتصد الجرجاني شرح المغني في مصنفه المقتصد، وهو مطبوع.

3.                    الإيجازهو اختصار إيضاح أبي عليٍّ الفارسي، ووصَفَه صاحب كتاب كشف الظنون.
4.                    دلائل الإعجاز (مطبوع).
5.                    أسرار البلاغة (مطبوع).


وتعدُّ نظريةُ عبدُ القاهرِ في النظمِ من أهمِ النظرياتِ البلاغيةِ والنقديةِ حتى عصرنا الحاضر؛ ذلك أنه نظريته بحثت في العلاقة بين اللفظ والمعنى من وجهة لغوية دقيقة؛ نتيجة التحامها وشدة ارتباطها باللفظ والمعنى، حيث نظر الجرجاني إليهما نظرة المتفحِّص العارف بمقادير الكلام؛ لذلك عرف قيمة اللفظ في النظم، وعرف طريقة تصوير المعاني على حقيقتها، ثمّ جمع بين اللفظ والمعنى، وسَوَّى بين خصائصهما، ورأى أنَّ اللفظَ جسد والمعنى روحه.

وقد اعتمد على حسن الصياغة ودقة التصوير التي نضجت في بحوثه، و بهذه الطريقة انتهى من فكرة الفصل بين اللفظ والمعنى.

النظم لغة: التأليف. نظم الشيء ينظمه نظماً, ونظمَ اللُّؤلُؤَ؛ أيْ جَمَعه في السّلك. ومنه نظمت الشِّعر, ونظم الأمرَ على المثل, وكلُّ شيء ضممت بعضه إلى بعضٍ فقد نظمته.

النظم اصطلاحا:" تأليف الكلمات والجمل مترتبة المعاني، متناسبة الدلالات على حسب ما يقتضيه العقل ".
كان مصطلح النظم شائعاً عند الأشاعرة الذين ينتمي إليهم عبد القاهر الجرجاني, ويجعلونه مناط إعجاز القرآن. وكان الجاحظُ أولََّ مَن استخدمَ هذا الاصطلاح، وعلل به الإعجاز القرآني. أما الجبائي المعتزلي فقد وضع مكانه الفصاحة, وردَّها إلى حسن اللفظ والمعنى.

وقد نفى القاضي عبد الجبار أن يكونَ مرجعُ الفصاحةِ إلى اللفظ أو المعنى أو الصورة البيانية، بل ردَّها إلى الصياغة النَّحوية والأسلوب.
ثم ظهر عبد القاهر مستفيدًا ممّا ذكره السّابقون، فظهرت نظرية النظم عنده ناضجة متكاملة, قائمة على حسن الصياغة والسبك، وتوخّي معاني النّحو، وكان النظمُ عنده مرتبط ٌ بالإعجاز القرآني، يقول عبد القاهر في مقدمة كتابه دلائل الإعجاز:
إنِّي أقولُ مَقالاً لسْتُ أُخفيه *** ولستُ أرهَبُ خصْمًا إنْ بَدا فيهِ
ما مِنْ سبيلٍ إلى إثباتِ مُعجزةٍ ** في النَّظْمِ إلا بما أصبحْتُ أبديهِ
فما لنَظْمِ كلامٍ أنتَ ناظِمهُ *** مَعْنًى سِوى حُكْمِ إعرابٍ تُزجِّيهِ

إلى أنْ يقول:

وقد عَلِمْنا بأنَّ النَّظْمَ ليسَ سِوى ** حُكمٍ منَ النَّحْو نَمضي في تَوَخِّيهِ
لو نقَّبَ الأرضَ باغٍ غـيرَ ذاكَ له *** مَعنًى، وصعَّدَ يعلو في تَرقِّيهِ
ما عـادَ إلا بخُسْرٍ في تَطَلُّبهِ  ***  لا رَأى غيرَ غِيٍّ في تبغِّيــهِ

فالنّظم كما عرفه الجرجاني: ليس" إلا أن تضعَ كلامَك الوضعَ الذي يقتضيه علمُ النَّحو، وتعملَ على قوانينه وأصوله, وتعرفَ مناهجه التي نهجت, فلا تزيغَ عنها, وتحفظَ الرّسوم التي رُسِمَت لك, فلا تبخلْ بشَيءٍ منها. وذلك أنّا لا نعلم شيئاً يبتغيه الناظم بنظمه غير أن ينظر في وجوه كلّ بابٍ وفروقه".

موقف الجرجاني من قضية اللفظ والمعنى:
       شُغِلَ النُّقادُ بقضية اللفظ والمعنى، وذهبوا فيها مذاهبَ مختلفة، فمنهم من أعلى من شأن اللفظ وأهمل المعنى، ومنهم أعلى شأن المعنى وأهمل اللفظ، ومنهم من ذهب مذهب المتوسط بينهما . 
       
        وصلت قضية اللفظ والمعنى إلى عبد القاهر، فأخذ على عاتقه تصحيحَ هذا المفهوم المضطرب، فرأى أنَّ الانحيازَ للفظِ قَتلٌ للفِّكر، فقرر أن": الألفاظ لا تتفاضل من حيثُ هي ألفاظ مجرّدة، ولا من حيث هي كلمٌ مُفردة، وأنَّ الألفاظ تثبتُ لها الفضيلة وخلافها في ملاءَمة معنى اللفظـةِ لمعنى التي تليها، أو ما أشبه ذلك مما لا تَعَلُّقَ له بِصَريحِ اللفظ، وممّا يشهَدُ بذلك: أنك ترى كلمةً تروقك وتؤنسك في موضع، ثمَّ تراها بعينها تثقل عليك وتوحشك في موضعٍ آخر".

كما أنه جعل الألفاظ في خدمة المعاني وتصرفها، فالمعاني هي التي تملكُ سياستها، المستحقة طاعتها، فمن نصرَ اللفظ على المعنى كان كمَن أزالَ الشَّيء عن جِهته، وأحاله عن طبيعته، وذلك مظنةَ الاستكراه، وفيه فتحُ أبوابِ العَيب، والتّعرض للشَّين، ولهذه الحالة كان كلام المتقدمين.

ويؤكّد هذه الفكرةَ مرّةً أُخرى فيقول:"وإنك إذا فرغتَ من ترتيبِ المعاني في نفسِك لم تحتجْ إلى أن تستأنفَ فكرًا في ترتيب الألفاظ، بل تجدُها تترتبُ لكَ بحُكْمِ أنها خَدَمٌ للمعاني، وتابعةٌ لها، ولاحقةٌ بها ".
ويقول في معرض حديثة عن قضية اللفظ والمعنى: "اعلم أنَّ الداء الدَّوي والذي أعيا أمره في هذا الباب غلطُ من قَدَّمَ الشعرَ بمعناه، وأقلَّ الاحتفالَ باللفظ، وجعلَ لا يعطيه من المزية إنْ هو أعطى إلا ما فَضلَ عن المعنى ... فالمعنى هو كُلُّ ما تَوَلّدَ مِن ارتباطِ الكلام بعضه ببعض، فهو الفكر والإحساس والصورة والصَّوت، وهو كلّ ما ينشأ عن النظم والصياغة من خصائصَ ومزايا".

ويخلص إلى القول بأنك أيها القارئ لا تجدُ أحداً يقول: هذه اللفظة فصيحة إلا وهو يعتبر مكانها من النظم وحسن ملاءمة معناها لمعنى جاراتها، وفضل مُؤانستها لأخواتها.


وقد شبه الجرجانيّ النظمَ عند الفصحاءِ والبُلغاء، بالنّقش والنّحت، والتّصوير المُعبر عن الفن والإبداع والجمال؛ يقول:"إنما سبيل المعاني سبيل الأصباغ التي تعمل منها الصور والنقوش، فكما أنك ترى الرجل قد تهدّى في الأصباغ، التي عمل منها الصورة والنقش في ثوبه الذي نسجَ إلى ضربٍ من التَّخير والتدبُّر في أنفس الأصباغ، وفي مواقِعها ومقاديرها، وكيفية مَزجه لها وترتيبه إياها، على ما لم يهتدِ إليه صاحبه، فجاء نقشُه مِن أجلِ ذلك أعجب، وصورته أغرب، كذلك مالَ الشاعرُ في توخّيها معاني النّحوِ وُجوهه التي علمتَ أنّها محصولُ النَّظم".

المراجـــع:
  1.       أسرار البلاغة، عبد القاهر الجرجاني.
  2.     دلائل الإعجاز، عبد القاهر الجرجاني.
  3.     البلاغة العربية والنقد الأدبي، محمد كنانة وآخرون.
  4.    الفكر اللغوي عند عبد القاهر الجرجاني:   http://www.alukah.net/Literature_Language/0/26217/#ixzz2LR5QcUfE
  5.     منتدى الفصحاء العرب http://alfousaha-alarab.alhamuntada.com/t123-topic
  6.     مجلس مذاكرة دروس البلاغة: http://www.afaqattaiseer.com/vb/showthread.php?t=5357
  7.     نظرية النظم عند عبد القاهر الجرجانيhttp://al-diwaniya.com/showthread.php?t=58505

والحمدُ لله ربِّ العالمين.

علم البديع لطلبة الشريعة 2

لا تنسنا يا أخيّ من دعوة طيبة صادقة